الصمت والكلام- حكمة الأجداد في زمن الثرثرة الرقمية.
المؤلف: علي بن محمد الرباعي10.18.2025

في ظلام الليل البهيم، أمضت الدجاجة وقتها الثمين وهي تعلم صغيرها الديك، بكل اجتهاد، بأنه صقر شامخ، فزينت جوانب جناحيه بالحناء، ووشوشت في أذنيه الصغيرتين، بعد أن أسكتت إخوته الصغار، بأن والده ليس ديكاً عادياً، بل صقراً باسلاً، وأنه يجب عليه منذ بزوغ الفجر أن يتعامل مع هذا الواقع الجديد بكل ثقة واقتدار، فيحلق عالياً في السماء الفسيحة، ويصفق بجناحيه بقوة، ويواجه الرخم والحدأة بشجاعة، ولا يرضى إلا بالقمم الشاهقة، فصدق الديك الصغير حكاية أمه بإيمان راسخ، واستيقظ قبل انبلاج الصباح، وعقد العزم على الطيران قبل أن يفتح باب العشة، وعلى الرغم من السرعة الفائقة التي انطلق بها من أعلى سطح المنزل، إلا أنه بالكاد ارتفع إلى علو عشرة أقدام، ثم هوى في كومة الروث، عندها أحاطت به الدجاجات وأطلقن ضحكات مدوية، فلم يجد الديك الصغير مفراً من أن يؤذن بصوت عالٍ ليستعيد هويته الحقيقية التي لن يخجل منها بعد هذا اليوم.
في قديم الزمان، كانت هناك أم لديها طفل صغير تأخر في الكلام، فاجتهدت بكل ما أوتيت من قوة ليتحرر من هذا الصمت القاتل، فاستشارت الفقهاء والدجالين، فأجمعوا على أن صمته خير له وأبقى، لكنها لم تفقد الأمل، فأطعمته الأطعمة الحامضة واللاذعة لتحفيز لسانه على النطق بكلمة واحدة، ولكن دون جدوى، وفي ذات صباح مشرق ذهبت لجلب الماء من البئر، وربطت الطفل بمؤخرة ثوبها في فناء المنزل، وتركته وحيداً، فجاءت إحدى بنات الجيران لتلعب معه، فإذا به ينطق الكلام بطلاقة، فانحلت عقدة لسانه، وعادت أمه من البئر وهي تكاد تطير من الفرح، وأهدت بنت الجيران قطعة قماش مزركشة وعصابة رأس حمراء.
هذا الصبي الصغير، حديث العهد بالنطق، كلما تحدث بكلمة، انهالت عليه القبلات من كل صوب، وقوبلت كلماته بالضحكات والتعليقات المتفائلة، وأصبح الثرثرة جزءاً لا يتجزأ من شخصيته، ومع مرور الأيام، صار يجوب الدنيا بلسانه، وتزايدت زلاته وأخطاؤه الكلامية، مما سبب إحراجاً كبيراً لوالدته بين أقاربها، خاصة عندما يطرح أسئلة محرجة ومخجلة، فقررت أن تثقل لسانه مؤقتاً عندما تستقبل ضيوفاً، أو تزور جيرانها، ووجدت حلاً مبتكراً، وهو أن تضع في فمه خرزة كبيرة تثقل حركة لسانه، وإذا رأت عينيه تلمعان استعداداً للكلام، أخرجت الخرزة وسألته: "ماذا تريد أن تقول؟" فإذا كان الكلام مناسباً، سمحت له بالتحدث، ثم أعادت الخرزة إلى مكانها، وإن لم يكن مناسباً، أبقت الخرزة في فمه.
وبمرور الوقت، تضاءلت الشطحات الكلامية، وتراجعت الزلات اللسانية، وأصبحت الأم تستخدم أكثر من خرزة للاحتياط، وتعلمت نساء القرية من هذه السيدة التي نجحت ببراعة في كبح جماح لسان ابنها الفصيح ذي التعبيرات المخجلة والمهلكة، فبدأن هن أيضاً في استخدام "وصفة أبو خرزة" مع أبنائهن كثيري الكلام.
في زمن غابر، قال أحد حكماء القرى: "ليت لي رقبة طويلة كرقبة الجمل؛ لكي أتمكن من إدراك الكلمات السيئة وغير اللائقة قبل أن تخرج من فمي، وأعيدها إلى صدري، ولكن رقبتي قصيرة كرقبة العصفور؛ ولا أتمكن من تحريك شفتي إلا وتخرج الكلمة كالرصاصة الطائشة، لا تصيب إلا الصديق والرفيق."
وكما كان هناك بديع الزمان الهمذاني، فقد ظهر هنا الكثير من بديعي الزمان الهذياني، ويا كم من أناس غابوا ولم يعودوا، وكم من سبع غاب ثم عاد، ومراعاة الاعتبارات القولية حاضرة في ذهن من كان غنياً ثم افتقر، وغائبة عن وعي من كان فقيراً ثم اغتنى، وما أروع قول رسول حمزاتوف: "يظل أهلنا يعلموننا الكلام طيلة عامين، ثم يقضون بقية أعمارهم لكي يعلمونا الصمت."
الذي قال: "تكلم لكي أعرف من أنت"، هو (مخبر شيطاني) يعيش على ما يسمع، ومثله الذي قال بالعامية: "رأس ما يتهرج دباة"، وفي زمن التواصل الاجتماعي، الخطر قد انتشر وعم، فالكلام سلعة رخيصة، والصمت خُلق مهمل ومنسي.
وسائل التواصل الاجتماعي تغري بالكلام، ولو كان فارغاً ومجانياً، بل إن فضاء التواصل بطبيعته ثرثار، يستفزك لكي تتحدث، ولكنه لا يحميك، ولا يعنيه غيابك، فشهوة الكلام متأصلة في البشر، ولم يصدق الكثيرون أن أتيحت لهم فرصة الحديث، حتى وإن لم يتمكنوا من الاستماع إلى بعضهم البعض.
من الحكمة أن ندرك أن تقييم الآخرين لنا ليس على مستوى واحد، ولا من زاوية واحدة، فتقييم الجالس للقائم يختلف عن تقييم القائم للجالس، وزاوية النظر تضيق بها العبارة، ويتسع فيها المجال للمعبّر؛ إذا علمنا أن المتكئ يرى الأشياء مائلة، وزاوية نظر المنسدح تختلف عن زاوية نظر الجالس والقائم، فهو يرى أو يتوهم أنه يرى، بينما هو يرى الأشياء بالمقلوب، وإذا قال أحدهم عنك "صغير"، فقل: "اللهم اجعلني في عين نفسي صغيراً، وفي أعين الناس كبيراً"، ومن قال عن منطقتك مثلاً "صغيرة"، فهو بحاجة للعودة لدراسة التاريخ والجغرافيا وسير الرجال.
يقال إن الصمت قناع الكلام، والسكوت حبل الأفكار الواصل بين جهتين أو أكثر، وكم مرة كان الكلام زائداً عن الحاجة، فليس كل خطيب مفوه، ولا كل مفوه خطيباً، وحقاً (ما أسهل الكلام)، وربما لا يدرك بعضنا أن اللباقة واللياقة في الحديث حظ ونصيب، والدنيا حظوظ، وحظ الجمل في سنامه العالي، وباقي حياته تعب وشقاء.
في قديم الزمان، كانت هناك أم لديها طفل صغير تأخر في الكلام، فاجتهدت بكل ما أوتيت من قوة ليتحرر من هذا الصمت القاتل، فاستشارت الفقهاء والدجالين، فأجمعوا على أن صمته خير له وأبقى، لكنها لم تفقد الأمل، فأطعمته الأطعمة الحامضة واللاذعة لتحفيز لسانه على النطق بكلمة واحدة، ولكن دون جدوى، وفي ذات صباح مشرق ذهبت لجلب الماء من البئر، وربطت الطفل بمؤخرة ثوبها في فناء المنزل، وتركته وحيداً، فجاءت إحدى بنات الجيران لتلعب معه، فإذا به ينطق الكلام بطلاقة، فانحلت عقدة لسانه، وعادت أمه من البئر وهي تكاد تطير من الفرح، وأهدت بنت الجيران قطعة قماش مزركشة وعصابة رأس حمراء.
هذا الصبي الصغير، حديث العهد بالنطق، كلما تحدث بكلمة، انهالت عليه القبلات من كل صوب، وقوبلت كلماته بالضحكات والتعليقات المتفائلة، وأصبح الثرثرة جزءاً لا يتجزأ من شخصيته، ومع مرور الأيام، صار يجوب الدنيا بلسانه، وتزايدت زلاته وأخطاؤه الكلامية، مما سبب إحراجاً كبيراً لوالدته بين أقاربها، خاصة عندما يطرح أسئلة محرجة ومخجلة، فقررت أن تثقل لسانه مؤقتاً عندما تستقبل ضيوفاً، أو تزور جيرانها، ووجدت حلاً مبتكراً، وهو أن تضع في فمه خرزة كبيرة تثقل حركة لسانه، وإذا رأت عينيه تلمعان استعداداً للكلام، أخرجت الخرزة وسألته: "ماذا تريد أن تقول؟" فإذا كان الكلام مناسباً، سمحت له بالتحدث، ثم أعادت الخرزة إلى مكانها، وإن لم يكن مناسباً، أبقت الخرزة في فمه.
وبمرور الوقت، تضاءلت الشطحات الكلامية، وتراجعت الزلات اللسانية، وأصبحت الأم تستخدم أكثر من خرزة للاحتياط، وتعلمت نساء القرية من هذه السيدة التي نجحت ببراعة في كبح جماح لسان ابنها الفصيح ذي التعبيرات المخجلة والمهلكة، فبدأن هن أيضاً في استخدام "وصفة أبو خرزة" مع أبنائهن كثيري الكلام.
في زمن غابر، قال أحد حكماء القرى: "ليت لي رقبة طويلة كرقبة الجمل؛ لكي أتمكن من إدراك الكلمات السيئة وغير اللائقة قبل أن تخرج من فمي، وأعيدها إلى صدري، ولكن رقبتي قصيرة كرقبة العصفور؛ ولا أتمكن من تحريك شفتي إلا وتخرج الكلمة كالرصاصة الطائشة، لا تصيب إلا الصديق والرفيق."
وكما كان هناك بديع الزمان الهمذاني، فقد ظهر هنا الكثير من بديعي الزمان الهذياني، ويا كم من أناس غابوا ولم يعودوا، وكم من سبع غاب ثم عاد، ومراعاة الاعتبارات القولية حاضرة في ذهن من كان غنياً ثم افتقر، وغائبة عن وعي من كان فقيراً ثم اغتنى، وما أروع قول رسول حمزاتوف: "يظل أهلنا يعلموننا الكلام طيلة عامين، ثم يقضون بقية أعمارهم لكي يعلمونا الصمت."
الذي قال: "تكلم لكي أعرف من أنت"، هو (مخبر شيطاني) يعيش على ما يسمع، ومثله الذي قال بالعامية: "رأس ما يتهرج دباة"، وفي زمن التواصل الاجتماعي، الخطر قد انتشر وعم، فالكلام سلعة رخيصة، والصمت خُلق مهمل ومنسي.
وسائل التواصل الاجتماعي تغري بالكلام، ولو كان فارغاً ومجانياً، بل إن فضاء التواصل بطبيعته ثرثار، يستفزك لكي تتحدث، ولكنه لا يحميك، ولا يعنيه غيابك، فشهوة الكلام متأصلة في البشر، ولم يصدق الكثيرون أن أتيحت لهم فرصة الحديث، حتى وإن لم يتمكنوا من الاستماع إلى بعضهم البعض.
من الحكمة أن ندرك أن تقييم الآخرين لنا ليس على مستوى واحد، ولا من زاوية واحدة، فتقييم الجالس للقائم يختلف عن تقييم القائم للجالس، وزاوية النظر تضيق بها العبارة، ويتسع فيها المجال للمعبّر؛ إذا علمنا أن المتكئ يرى الأشياء مائلة، وزاوية نظر المنسدح تختلف عن زاوية نظر الجالس والقائم، فهو يرى أو يتوهم أنه يرى، بينما هو يرى الأشياء بالمقلوب، وإذا قال أحدهم عنك "صغير"، فقل: "اللهم اجعلني في عين نفسي صغيراً، وفي أعين الناس كبيراً"، ومن قال عن منطقتك مثلاً "صغيرة"، فهو بحاجة للعودة لدراسة التاريخ والجغرافيا وسير الرجال.
يقال إن الصمت قناع الكلام، والسكوت حبل الأفكار الواصل بين جهتين أو أكثر، وكم مرة كان الكلام زائداً عن الحاجة، فليس كل خطيب مفوه، ولا كل مفوه خطيباً، وحقاً (ما أسهل الكلام)، وربما لا يدرك بعضنا أن اللباقة واللياقة في الحديث حظ ونصيب، والدنيا حظوظ، وحظ الجمل في سنامه العالي، وباقي حياته تعب وشقاء.
